الاثنين، 18 يناير 2021

لأمر ما جدع قصير أنفه

لأمر ما جدع قصير أنفه

وقصير هو قصير بن سعد اللخمي وكان نديماً  لجذيمة بن مالك بن نصر الذي يقال له: جذيمة الأبرش وجذيمة الوضاح، والعرب تقول للذي به البرص: به وضح، تفاديا من ذكر البرص.

وكان جذيمة ملك ما على شاطئ الفرات، وكانت الزباء ملكة الجزيرة، وكانت من أهل جاجرم، وهي بلدة من خراسان بين نيسابور وجرجان، وليحرر، وتتكلم بالعربية، 

وكان جذيمة قد وترها بقتل أبيها، فلما استجمع أمرها، وانتظم شمل ملكها، أحبت أن تغزو جذيمة، 

ثم رأت أن تكتب إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبحا في السماع، وضعفا في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا غيرك، فأقبل إلي لأجمع ملكي إلى ملكك وأصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك، تريد بذلك الغدر.

فلما أتى كتابها جذيمة وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحجا والرأي من ثقاته، وهو يومئذ ببقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه، وعرضت عليه

فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم قصير، وكان أريبا حازما أثيرا عند جذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر، فذهبت كلمته مثلا،

 ثم قال لجذيمة: الرأي أن تكتب إليها، فإن كانت صادقة في قولها فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالتها وقد وترتها وقتلت أباها، فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قصير:

إني امرؤ لا يميل العجز ترويتي ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم

فقال جذيمة: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت كلمته مثلا، ودعا جذيمة عمرو بن عدي ابن أخته فاستشاره فشجعه على المسير، وقال: إن قومي مع الزباء، ولو قد رأوك صاروا معك، فأحب جذيمة ما قاله، وعصى قصيرا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، فذهبت مثلا،

وانطلق جذيمة  واستخلف ابن اخته عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن معه على جنوده وخيوله، وسار جذيمة في وجوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفرات من الجانب الغربي،

 فلما نزل دعا قصيرا فقال: ما الرأي يا قصير؟ فقال قصير: " ببقة خلفت الرأي، فذهبت مثلا، قال: وما ظنك بالزباء؟ قال: القول رادف، والحزم عثراته تخاف، فذهبت مثلا، واستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف،

 فقال جذيمة: يا قصير كيف ترى؟ قال قصير: خطب يسير في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الجيوش، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك وأحاطت بك من خلفك فالقوم غادرون بك، فاركب العصا فإنه لا يشق غباره، فذهبت مثلا، وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، وإني راكبها ومسايرك عليها، 

فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على متن العصا موليا فقال: ويل امه حزما على متن العصا، فذهبت مثلا، وجرت به إلى غروب الشمس، ثم نفقت، وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له: برج العصا، وقالت العرب: خير ما جاءت به العصا، فذهبت مثلا، 

وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيل حتى دخل على الزباء، فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الاسب، فقالت: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلا، فقال جذيمة: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فذهبت مثلا. ودعت بالسيف والنطع 

ثم قالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب، فأمرت بطست من ذهب قد أعدته له وسقته الخمر حتى سكر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في القتال تكرمة للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة، وجعلت الزباء دمه في ربعة لها، 

وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أثائر أنت؟ قال: بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللخمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو ابن عدي، 

فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيأ واستعد ولا تطلن دم خالك، قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن هلاكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك، فحذرت عمرا، واتخذت لها نفقا من مجلسها الذي كلنت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني، 

ودعت رجلا مصورا من أجود أهل بلاده تصويرا وأحسنهم عملا، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنطرا فتخلوا بحشمه وتنضم إليهم وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور، ثم أثبت لي عمرو بن عدي معرفة، فصوره جالسا وقائما وراكبا ومتفضلا ومتسلحا بهيئته ولبسته ولونه، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلي، فانطلق المصور حتى قدم على عمرو بن عدي وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوصته به، ثم رجع إلى الزباء بعلم ما وجهته له من الصورة على ما وصفت، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه، 

فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، وما أنت لذلك مستحقا عندي، فقال قصير: خل عني إذن وخلاك ذم، فذهبت مثلا، فقال له عمرو: فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر آثارا بظهره، فقالت العرب: لمكر ما جدع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمس:

وفي طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصير، ورام الموت بالسيف بيهس

ثم خرج قصير كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، 

فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غررت خاله، وزينت له المصير إليك، وغششته، ومالأتك ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته وأصابت عنده من الحزم والرأي ما أرادت، 

فلما عرف أنها استرسلت إليه ووثقت به قال: إن لي بالعراق أموالا كثيرة وطرائف وثيابا وعطرا، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائفها وثيابها وطيبها، وتصيبين في ذلك أرباحا عظاما. وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، وكان اكثر ما يطرفها من التمر الصرفان، وكان يعجبها، فلم يزل يزين ذلك حتى أذنت له، ودفعت إليه أموالا وجهزت معه عبيدا، فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق وأتى الحيرة متنكرا، فدخل على عمرو فأخبره الخبر، وقال: جهزني بصنوف البز والأمتعة لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، 

وجهزته ثانية فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وهيئ الغرائر والمسوح واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف، ففعل عمرو ذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح وسار يكمن النهار ويسير الليل، 

فلما صار قريبا من مدينتها تقدم قصير فبشرها وأعلمها بما جاء من المتاع والطرائف، وقال لها: آخر البز على القلوص، فأرسلها مثلا، وسألها أن تخرج فتنظر إلى ما جاء به، وقال لها: جئت بما صاء وصمت، فذهبت مثلا، ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير

ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا

أم صرفانا تارزا شديدا ...

فقال قصير في نفسه: بل الرجال قبضا قعودا ...

فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيرا مر على بواب المدينة وكان بيده منخسة فنخس بها الغرارة فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط، فقال البواب بالرومية بشنب ساقا، يقول: شر في الجوالق فأرسلها مثلا، 

فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت ودل قصير عمرا على باب النفق الذي كانت الزباء تدخله، وأرته إياه قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها، فمصت خاتمها وكان فيه السم وقالت: بيدي لا بيد ابن عدي، فذهبت كلمتها مثلا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعا إلى العراق.


المصدر:

مجمع الأمثال للميداني: 1/233.

زهر الأكم في الأمثال والحكم: ص 1/208.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما أشبه الليلة بالبارحة

 ما أشبه الليلة بالبارحة" مقولة شهير يرددها الكثير منا على لسانه لاسيما عندما تتشابه الحوادث وتتكرر المواقف وتتبدل الأراء والمبادئ، وله...