يضْرب هذا المثل للرجل الصَّالح يسْقط السقطة فيقولون (لكل حسام نبوة وَلكُل جواد كبوة وَلكُل حَلِيم هفوة وَلكُل كريم صبوة)
وأول من قال ذلك ابْن الْقرْيَة : أيوب بن يزيد بن قيس بن زرارة النمري الهلالي، المعروف بابن القرّية
وكان أعرابياً أمياً، وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة.
وكان عامل الحجاج في منطقة يقال لها عين التمر، وكان العامل يغدي كل يوم ويعشي، فوقف ابن القرية ببابه فرأى الناس يدخلون فقال: أين يدخل هؤلاء فقالوا: إلى طعام الأمير، فدخل فتغدى وقال: أكل يوم يصنع الأمير ما أرى فقيل: نعم.
فكان يأتي كل يوم بابه للغداء والعشاء، إلى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل، وفاهتم لذلك، وتأخر بسبب ذلك طعامه.
فجاء ابن القرية فلم ير العامل يتغدى، فقال: ما بال الأمير اليوم لا يأكل ولا يطعم فقالوا: اغتم لكتاب ورد عليه من الحجاج ، قال: ليقرئني الأمير الكتاب وأنا أفسره إن شاء الله تعالى.
فلما قرئ عليه الكتاب عرف الكلام وفسره للوالي حتى عرفه جميع ما فيه فقال له: أفتقدر على جوابه قال: لست أقرأ ولا أكتب ولكن أقعد عند كاتب يكتب ما أمليه، ففعل.
فكتب جواب الكتاب، فلما قرئ الكتاب على الحجاج رأى كلاما عربياً غريباً، فعلم أنه ليس من كلام كتاب الخراج، وكان الحجاج ذكياً فصيحاً.
فدعا برسائل عامل عين التمر فنظر فيها فإذا هي ليست كهذا الكتاب.
فكتب الحجاج إلى العامل أما بعد، فقد أتاني كتابك بعيداً من جوابك بمنطق غيرك، فإذا نظرت في كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تبعث إلي بالرجل الذي صدر لك الكتاب، والسلام.
قال: فقرأ العامل الكتاب على ابن القرية وقال له: تتوجه نحوه فقال: أقلني، قال: لا بأس عليك، وأمر له بكسوة ونفقة وحمله إلى الحجاج.
فلما دخل عليه قال: أيوب، قال: اسم نبي وأظنك أمياً تحاول البلاغة ولا يستصعب عليك المقال، وأمر له بنزل ومنزل، فلم يزل يزداد به عجبا حتى أوفده على عبد الملك بن مروان، فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان وهي واقعة مشهورة بعثه
الحجاج إليه رسولاً، فلما دخل عليه قال له: لتقومن خطيباً ولتخلعن عبد الملك ولتسبن الحجاج أو لأضربن عنقك، قال: أيها الأمير إنما أنا رسول، قال: هو ما أقول لك، فقالم وخطب وخلع عبد الملك وشتم الحجاج، وأقام هنالك.
فلما انصرف ابن الأشعث مهزوماً أُخِذَ ابْن الْقرْيَة إلى الْحجَّاج فَقَالَ يَا عَدو الله خرجت عَليّ مَعَ ابْن الْأَشْعَث
قَالَ أصلح الله الْأَمِير كَيفَ مقَالَة الْأَسير المقهور الضَّرِير، المغلول حَده، التعس جده، لَيْسَ لَهُ من ظالمه نصير، وَلَا فِي أمره مشير، وَلَا لَهُ ملْجأ وَلَا عشير.
فعفا عنه،وقال له يوماً اذهب إِلَى هِنْد فأبلغها عني طَلاقهَا بكَلِمَتَيْنِ لَا تزد عَلَيْهِمَا،وَقد أمرت لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم فَصَارَ إِلَيْهَا
فَقَالَ إِن الْأَمِير يَقُول لَك كنتِ فبنتِ
فَقَالَت وَالله مَا فرحنا بِهِ إِذْ كَانَ وَلَا حزنا عَلَيْهِ إِذْ بَان، قَالَ لها ابن القرية وَقد أَمر لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم مَتَاعا قَالَت هِيَ لَك بشرى ثمَّ انْصَرف.
وخطب الحجاج بالناس يوما فقال لابن القرية كيف رأيتني فقال: رَأَيْت الْأَمِير خَطِيبًا مصقعا قَالَ لتخبرني كيف ذلك، قَالَ: رَأَيْت الْأَمِير يُشِير بِالْيَدِ وَيكثر بِالرَّدِّ ويستعين بأما بعد
قال فدعا الحجاج بالنطع فَقَالَ ابْن الْقرْية أَيها الْأَمير لكل جواد كبوة وَلكُل شُجَاع نبوة وَلكُل كريم هفوة
ثمَّ أنشأ يقول:
أقلني أقلني لا عدمتك عثرتي … فكل جواد لا محالةً يعثر
لعمري لقد حذرتني ونعيتني … وبصرتني لو أنني كنت أبصر
ليالي سهامي في اليدين صحيحة … ألا كل سهم مرةً يتكسر
وأحسن ما يأتي امرؤ من فعاله … تجاوزه عن مذنب حين يقدر
ولكن الحجاج لم يقله، وقتله بعد ذلك، حين لا ينفع الندم، وكان مقتله في سنة أربع وثمانين لهجرة
المصدر:
جمهرة الأمثال لابن مهران: 1/309
وفيات الاعيان لابن خلكان: 1/251
قلادة النحر بامخرمة: 1/476
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق